ثقافة وفن

سعيد بنيس: خطورة الأخبار الزائفة في انتشارها الوبائي

حاوره: عبد العالي دمياني الجمعة 20 نوفمبر 2020
banis_1_558052173
banis_1_558052173

Ahdath.info

 

يسلط الباحث في العلوم الاجتماعية سعيد بنيس في هذا الحوار الضوء على الطابع الوبائي الخطير للأخبار الزائفة في المس بالعيش المشترك وتقويض أسس حرية التعبير، انطلاقا من استغلال بعض "المرضى الاجتماعيين" كما يصفهم للعوالم الرقمية والخوارزميات التي تميز مواقع الاتصال والتواصل، ويقف عند ضرورة التصدي تربويا وثقافيا لهذه الظاهرة، التي انتعشت مع الثقافة الرقمية واستغل فاعلوها "اتصال" الكل رقميا...

_ أصبح للأخبار الزائفة حضور طاغ في العقد الأخير، هل يمكن اعتبار هذه الظاهرة جزءا لا يتجزء من الحوامل الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي؟

_ _ يمكن الانطلاق من أن تناسل الأخبار الزائفة مرده ليس فقط الحوامل الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي بل بالأساس طبيعة ونوعية التفاعلات التي يتيحها العالم الأزرق.

فالتفاعل الرقمي ليس تواصلا ( (Communication بل اتصالا ( Connexion) مما يجعل من حضورها وتأثيرها ضربا من ضروب الانتشار الوبائي فيقال عن الخبر الزائف أنه يتميز بكونه معلومة وبائية ( La viralité( وطريقة تداوله وتقاسمه هي أساس قوته حتى أضحى ظاهرة من الظواهر البارزة والمميزة للعالم الرقمي.

ساعد على هذا الوضع كون التعايش والتساكن داخل العالم الرقمي أصبح بمثابة إدمان افتراضي يتعاطى الفرد من خلاله بنهم وبتخمة مرضية مع جميع المعلومات والأخبار الواردة على أساس أنها حقائق نافعة ومعلومات إيجابية ومؤكدة.

- هل يمكن في هذا السياق اعتبار الأخبار الزائفة لازمة تلتصق بحرية التعبير أو أنها تشكل أحد أعراضها الجانبية على هذه الحوامل ومواقع التواصل والاتصال؟

_ _ إذا سلمنا أن حرية التعبير ترتبط بمقولات الاختلاف والتعدد والتنوع وكذلك العيش المشترك فإن طبيعة الخبر الزائف لا يمكن اعتبارها لازمة تلتصق بحرية التعبير أو إنها أحد أعراضها الجانبية بل على العكس هي تعمل على تقويض أسسها لا سيما في شقها المتعلق باحترام الآخر وعدم التدخل في حياته الشخصية أو المجتمعية.

ولأن االخبر الزائف يتخذ عامة شكل تشهير أو معلومة خاطئة حول الأفراد أو الجماعات أو الهيئات أو بعض الحقائق مما يلحق ضررا معنويا أو ماديا بالمؤسسات والأشخاص موضوع الخبر الزائف. من هذه الزاوية تتنافى ماهية الخبر الزائف مع أسس حرية التعبير كأفق للعيش المشترك والرابط الاجتماعي.

فهذا الصنف من الأخبار يساهم في تجذر بيئة من الهلع المجتمعي والتخمة المرضية في المعلومة ولا علاقة لهذه التخمة بهامش حرية التعبير لأن هناك بونا شاسعا بين حرية التعبير والخبر الزائف.

_ فما هي إذن الحدود الفاصلة بين حرية التعبير والمس بالحياة الخاصة للآخرين؟

_ _ في هذا الإطار يمكن الحديث عن صنف من التنوع المتوحش والتعدد المنكمش عندما يكون الخبر الزائف هو الوسيلة المثلى للقتل الرمزي للآخرين.

ولأن الخبر الزائف في راهن جائحة كورونا يمس بالعيش المشترك وكذلك بالمصير الجمعي للوطن ويهوي بالنقاش العمومي إلى مستويات بئيسة تجعل المجتمع حبيس مسكنات وجهل وتيه يصبح معه التطهير والتعقيم ضد هذه الأخبار ضرورة ملحة.

-ما هي تداعيات الأخبار الزائفة على التماسك الاجتماعي خصوصا في المجتمعات التي تسود فيها الأمية ويغيب عنها الحس النقدي؟

_ _ في المجتمعات التي تسود فيها الأمية يكون تأثير الأخبار الزائفة على التماسك الاجتماعي تأثيرا كاسحا لا سيما في غياب الحس والتفكير النقدي واستحالة الولوج للمعلومة فتصير المعلومة الزائفة هي الحقينة والمصدر التي يرتكز عليها بناء الرأي العام.

من هذا المنطلق، يتحول الفضاء والنقاش العمومي إلى فضاء ونقاش يستمدان رمزيتهما من عوالم هامشية وسرديات ثانوية وأساطير خادعة تصير معها دعائم التماسك الاجتماعي وبالخصوص منها القيم ومرتكزات التعايش والتساكن في مهب الريح.

من هذه الزاوية يبدو أن دور محاضن التربية يشكل دورا محوريا في تصويب تداعيات الأخبار الزائفة وإعادة الروح للتماسك المجتمعي من خلال بناء أسرة وإعلام ومدرسة ومؤسسات تكرس لممارسة القيم والتقيد بها لتقوية وتجسيد الرابط الاجتماعي.

-ألا تعد الأخبار الزائفة ردا على ما سماه بعض المتتبعين بالتعتيم الإعلامي واحتكار المعلومات من قبل السلط التقليدية كما وقع في أزمة كورونا؟

_ _ يتضح أن هذه المعادلة ترتبط بالرغبة في خلق مصادر موازية للأخبار الرسمية والمؤسساتية وكذلك تلك التي يكون مصدرها الإعلام التقليدي وبنفس ومنطق وبراديغم مغاير.

لهذا فالأخبار الزائفة لا تعتمد على الوقائع والحقائق والأدلة والتقصي بل تروم التوجه المباشر والمخاطبة التلقائية لعاطفة وإحساس الفرد وشعوره لا سيما في زمن الانتقال من مجتمع الآمان إلى مجتمع المخاطر (جائحة كورونا) من خلال إبداع عبارات خطابية رنانة وفبركة وصناعة مشاهد مؤثرة تقارب المشاهد الحقيقية بل تعدو أن تكون أكثر من حقيقية، وهو ما يمس بمصداقية الأخبار التي تروجها الفضاءات الرقمية لكن في نفس الوقت يملأ الفراغ الناجم عن التعتيم الإعلامي واحتكار المعلومة من طرف الإعلام التقليدي.

لهذا فالحديث عن "عهد ما بعد الحقيقة" ( Post Truth Era ) يحيل على هيمنة الخبر والمعلومة التي تخاطب مباشرة الوجدان والأحاسيس وهذا ما يفسر ظهور موجة "الفايك نيوز" وتواري الخبر والمعلومة الموضوعية القائمة على دلائل فعلية.

وفي هذا الصدد أجرى ثلاثة باحثين من معهد ”ماساشوستس للتكنولوجيا“، دراسة نشرت في مجلة ”ساينس” العلمية، وخلصت الدراسة إلى أن مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي يميلون إلى مشاركة الأخبار الزائفة على نحو أوسع وأسرع مقارنة بالأخبار الحقيقية.

-كيف يمكن التصدي لـ"وباء" الأخبار الزائفة، التي تمتلك قوة فعالة من خلال استثمارها للزمن بالانتشار السريع وللحوامل الرقمية باستهدافها لأوسع الشرائح الاجتماعية في عصر "السيولات" المتعددة؟

_ _ من الضروري التذكير أن الهدف الأسمى من نشر "وباء" الأخبار الزائفة هو محاولة للاستغباء من خلال خلق "البوز" والحصول على أكبر عدد من المشاهدات. ومن هنا تأتي قوتها ويصبح مفعولها فيروسيا ووبائيا مع قوة بعض “الالكوريتمات” التي تساعد على انتشارها السريع والصاروخي.

انطلاقا من هذه الحيثيات تمكن الأخبار الزائفة أصحابها من تحقيق بعض الحاجيات النفسية كالانتقام ونشر الكراهية ومواجهة الخوف حيث أضحى العالم الرقمي الوعاء الأمثل لتفريخ المكبوتات النفسية والتيه الوجودي وتمرير بعض الإيديولوجيات… أو المس بمنافس سياسي أواقتصادي أو ثقافي...

من خلال ما سبق أضحت الحاجة ملحة للتصدي لـ"وباء" الأخبار الزائفة، التي تمتلك قوة فعالة من خلال الانتشار السريع واستهدافها لجميع الفئات المجتمعية التي أصبحت رهينة السيولات المتعددة.

من هذا المنطلق تبدو وتتجلى ضرورة وأهمية وجدوى وراهنية التربية على الاستقلالية والتوعية والقراءة النقدية. لذا يتوخى تحسيس وتربية الشباب والأطفال وجميع شرائح المجتمع بخطر الأخبار الزائفة لأن هذه الشرائح تشكل أداة ووسيلة بل ناقلا لانتشارها لأن المواقع الاجتماعية تعد الجسر والوعاء الأمثل لتلقي المعلومة .

ولأن هذه الأخيرة هي التي تأتي عند الفرد وليس هو الذي يبحث عنها مما يجعله متلقيا سلبيا وحاملا لثقافة عدم الثقة في الأخبار والمعلومات الصادرة عن المؤسسات والبنيات المنظمة. لهذا يمكن خلق وإبداع مواد تعليمية ومسارات في المدرسة المغربية لتكوين الناشئة على كيفية التعامل مع الأخبار الزائفة وتمرينها على الممارسات الفضلى لتفادي تأثير هذا النوع من الأخبار من خلال بيداغوجيا تمكنهم من اكتساب المهارات اللازمة للتعاطي مع هذا النوع من الأخبار.

_ هل تلعب منظومة التربية والتكوين في المغرب دورها في التربية على محاربة الإشاعة والخبر الزائف؟ وكيف يمكن للإعلام والنخب المثقفة أن يسهما في مواجهة الظاهرة؟

_ _ لمحاربة الإشاعة والخبر الزائف بالمغرب يبدو من الضروري الانكباب على البروفايلات والخصائص النفسية والشخصية والمجتمعية لمروجيها وطبيعة المستفدين منها.

يمكن تصنيف المروجين إلى فئتين متباينتين : أغلبية ذات أهداف مزدوجة منها التأثير السلبي في سبيل خلق بيئة مجتمعية محبطة مع الحصول على عائدات ربحية وأقلية من مختلقي الأخبار الزائفة يمكن أن توصف بـ”المرضى المجتمعيين” (Sociopathes) هدفهم ودوافعهم ليست ربحية بل غرضهم بث الفوضى في المجتمع من خلال منطق انهزامي وتشاؤمي.

كما يمكن كذلك الإقرار أن المحدد الأساسي في استفادة مروجي الأخبار الزائفة (ماديا وتأثيرا) هي هيمنة سلوك وممارسة طقوسية تعتبر تشارك المعلومة عادة اجتماعية بالإضافة إلى أننا في مجتمع ذي ثقافة شفوية شرع لتوه في خطواته الأولى للولوج إلى زمن التشارك الرقمي و"ثقافة بارطجي".

لهذا يمكن اعتبار المنخرطين في ترويج الأخبار الزائفة تجار حرب يتاجرون في سذاجة وعفوية بعض المواطنين مع سطوة وجذوة بل واشتعال كل ما هو نفسي وانفعالي في أزمنة الكوارث والمحن والحروب وفي زمن الحرب على جائحة ستقلب جميع الموازين الدولية وعواقبها تبدو غير متوقعة.

من المحمود إذن في إطار تصويب مكونات المواطنة المغربية و"التمغربيت" أن تنخرط وتنكب المنظومة التعليمية بجميع أسلاكها على اعتماد محترفات ومواد “التربية على الميديا”. فالمحترفات ستمكن من تحسيس التلاميذ بخطر الخبر الزائف وتحفيزهم على خلق محتويات مواطنة والتشجيع على موضوعية التلقي وإذكاء الفكر النقدي من خلال التعلم بالممارسة ((Learning by doing.

لكن لا يمكن للمنظومة المجتمعية والتعليمية أن تنجح في وظيفتها وحربها على الأخبار الزائفة إلا إذا ما تمت توعية وتكوين الكبار وأولياء الأمور والمشتغلين في محاضن التربية والتنشئة (الأسرة والجمعيات والأحزاب والنقابات والنوادي...) بمخاطر وآفات هذا النوع من الأخبار.

لهذا أصبح بديهيا التحول من التواصل العمومي إلى الاتصال العمومي Connexion publique) ) لأن المتلقي يتواجد ويسكن عوالم رقمية متصلة (الفايسبوك والواتساب ويوتيوب…) وانتقل تباعا من مواطنة واقعية إلى مواطنة رقمية تترصدها عدة مخاطر منها لا للحصر سرطان الأخبار الزائفة.

فالسلطات العمومية ومنظومة التعليم والنخب المثقفة ليسوا أمام مواطنين واقعيين بل أمام مواطنين رقميين والحل الناجع لإيصال التحسيس والتوعية بمخاطر "الفايك نيوز" يمر أساسا بـ"مرفأ" العالم الرقمي لا سيما أنه "مرفأ" محتضن ومساعد وفعال في ظل تجذر ثقافة “بارطجي”.

بالموازاة يمكن للسلطات الحكومية وللصحافة الجادة والمجتمع المدني استخراج السموم وغربلة الأخبار والتحقق من مصداقيتها باستخدام تقنية ”فاكتتشيكينغ” للتأكد والتحقق من المعلومة وتكذيب الأخبار الزائفة فهي سرطان ينخر المجتمع وجب التعامل معه بصرامة وجدة محينة كما يمكن كذلك خلق مرصد وطني للتصدي للأخبار الزائفة على شاكلة بعض التجارب الدولية في محاربة ثقافة وخطاب الكراهية.