السياسة

في مدرسة «الأحداث المغربية»

طه بلحاج الثلاثاء 30 يونيو 2020
AHDATH
AHDATH

AHDATH.INFO- هيأة التحرير

مازلنا في «الأحداث المغربية» لم نلتحق بالأكشاك بعد، اخترنا أن نزيد من فترة التأمل لدينا، لانريد أن نعود إلى قرائنا في صيغتنا الورقية بنفس الطريقة والأسلوب، لابد أن نعود أقوى وأجدى مما كنا عليه.

«الأحداث المغربية» ليست مجرد جريدة، هي وجهة نظر حاملة لمشروع مجتمعي، وبين الجريدة والمشروع هي مدرسة في التربية على المهنة، على المواطنة، وفي إنتاج العشرات من الأطر الصحفية التي تخرجت منها، وهي تنشر اليوم رسالة وأخلاقيات مدرستها الأولى في العشرات من الصحف والتلفزات والإذاعات والمؤسسات.

وفي هذه الجريدة/المدرسة/ المشروع نحتاج لأن نتأمل مستقبلنا أكثر من غيرنا. ولا يمكننا أن ننطلق من جديد إلا بعد أن نقرأ كامل تاريخنا الممتد على مدى يتجاوز العشرين سنة.

كادت الصحف الورقية تموت في الطوارئ الصحية والحجر الصحي بعد توقفها الاضطراري، لكننا نحن بالضبط، وقبل شبح الموت في زمن كورونا، نجونا من القتل غدرا أكثر من مرة، ولذلك نحتاج لأن نتأمل أنفسنا في المرآة أكثر من غيرنا.

نجونا من الاغتيال برسالة ملغومة وردت علينا من «حمقى الله» حين عبرنا عن موقف صارم من الإرهاب والتطرف الذي يؤدي إليه.

وحين لم نمت، طاردونا في الأكشاك، حرضوا علينا الباعة والقراء، ومرة أخرى قاومنا بالمهنة والأخلاق لننجو من الاغتيال الرمزي، وبالفعل، وبفضل النواة الصلبة لقرائنا الأوفياء، وبفضل الذين آمنوا برسالتنا وصدقها، ولأننا استحضرنا أن علينا أن نعيش من أجل الوطن، قاومنا الموت وتغلبنا عليه.

ظل الأستاذ والمؤسس معلمنا محمد البريني، يقود فريقنا بصبر وطول نفس، وفي اجتماعاتنا ظل يردد على مسامعنا دائما: هذه ضريبة أن تعيش للوطن، وأن تكون صحفيا من أجله.

آمنا بالرسالة، واصطبرنا على الألم من أجلها، سلاحنا الوحيد هو الالتزام الوطني والمهني، والأمل بأن غدا سيكون أفضل.

وانتصرنا ولو بعد حين.

ثم كان علينا أن نرى شبح القلق يحلق في سمائنا من جديد، لم يكن سهلا أن يرحل عنا الأستاذ المعلم، أن يراقبنا هناك من تقاعده، كان آخر الراحلين في لائحة المؤسسين الكبار، وكان علينا أن نواجه التحدي: هل سننجح في أن نخلف أساتذتنا؟ هل نحن في مستوى تحمل المسؤولية والأمانة؟ لو كانت الجريدة مجرد جريدة لهان الأمر علينا، لكنها ليست مجرد جريدة، وعلى أعناقنا مسؤولية جسيمة.

كان هذا وحده مثيرا للرهبة.

وازدادت رهبتنا أكثر، لقد رحل الحكم، رب الأسرة الذي كان يفض نزاعات صحفيين وأطره في رئاسة التحرير، رحل وترك لنا اختلافاتنا التي ورثناها من مساراتنا المختلفة، فينا القادم من مدرسة اليسار والآتي من المجتمع المدني والقادم من الجامعة… في هيئة التحرير نحن تعبير عن التعددية في المجتمع، لذلك كانت اجتماعاتنا في مجلس التحرير صباحا تمتد لأزيد من ساعة.

وطرح علينا السؤال من جديد: من سيدير اختلافاتنا ونحتكم إليه؟ وبدا السؤال مقلقا، الزميل المختار لغزيوي سيكون مدير نشرنا الجديد، القائد المقبل للمرحلة، الرجل الذي سيجلس على الكرسي الذي سيعطيه كل السلط للتصرف والحسم في تناقضاتنا.

هل سيكون عادلا؟ هل يملك من المهارات ما يؤهله ليكون قائدنا؟ ظلت الأسئلة تتوالد في أذهاننا نحن زملاءه، خصوصا وأننا من نفس الجيل والدفعة.

ثم حدث أن انتصرنا من جديد وبقينا أحياء فوق أرض الصحافة الواسعة، بل وعدنا إلى واجهة الأحداث كفاعلين..

ولا نخفي القراء سرا إن قلنا إننا ربحنا، وربحت معنا الصحافة، مدير نشر جديد.

البشر بشر ومن طبيعته الاحتفال بنجاحاته، لكن الوقت لم يكن يسمح لمديرنا الجديد أن ينتشي بمسؤوليته الجديدة، كان عليه أن يتحرك بسرعة ليملأ كرسيا كان يجلس عليه معلم عظيم، أن يتصرف كأي قائد ظل مطوقا بمسؤولية أن يبعث الطمأنينة في نفوس زملائه، ويهزم أولئك الذين يتمنون أو ينتظرون فشله.

وقد نجح في مهمته لسبب بسيط لكنه بالغ التعقيد أيضا، لأنه غير متاح للعموم، وصفته كانت أن ينتصر للصحفي فيه على رجل الإدارة، وأن يكون زميلا بدلا من باطرون، والأهم الذي لا يقدر عليه كثيرون لأنهم لا يملكون شجاعته وأخلاقه: أن يتنازل عن بعض من صلاحياته وسلطته كي يبقى قريبا من زملائه، ويمارس التدبير الديمقراطي لمدرسة تأسست لتكون ديمقراطية وتنشر قيم الديمقراطية وتحارب من أجلها.

وفي الواقع، هناك الكثير مما سهل على المختار وزملائه هذا العبور الآمن بـ«الأحداث المغربية» من جيل إلى جيل، ومن هواجس الموت إلى أفراح الانبعاث في قلب الحياة من جديد. ومن أولى هذه الأسرار طبيعة عقلية المالكين الجدد، أولئك الذين وضعوا أموالهم في المؤسسة وابتعدوا ليتركوا للصحفيين أن يمارسوا الصحافة بعيدا عن وصاية وبطش ما يقترفه غيرهم من استبداد في هيئات تحريرهم.

ونحن مدرسة أنشئت من قلب الاختلافات وعاشت بها، ونكاد نجزم أن ليست هناك مقاولة صحفية تعيش التعددية وتناقضات وجهات النظر التي نعيشها في «الأحداث المغربية»، سوى أننا ورثنا سرا عظيما: الاختلافات التي دفعت الآخرين إلى توليد المطبوعات الصحفية والاقتتال حول عائدات الأسهم، لا توجد بيننا، نحن نختلف في تفعيل قيمنا لا في تنفيذ أجندات غيرنا، ونختلف حول كيف نكون صحفيين لا فاعلين سياسيين أو أشباه صحفيين يخوضون حروبا بالوكالة.

ورثنا عن أساتذتنا المؤسسين قيمة أن الملكية رأسمالنا الوطني الذي يحمي تعدديتنا ووحدة أراضينا وسيادتنا الوطنية، ورثنا قيمة ملكية نتعامل معها بتوقير ونضعها فوق الحسابات السياسية الصغيرة، ملكية تضمن ديمقراطيتنا وتحمي ديننا من الاستغلال المقيت، ملكية تقود طموحنا إلى أبعد مدى: أن نكون أمة عظيمة بين الأمم، وهي تعطينا حلما استراتيجيا لا يعطيه لنا المهووسون بكراسي الانتخابات والتحالفات…

وربانا المؤسسون على أن الوطن حصن كرامتنا، وأنه تاج فوق رؤوسنا ومن دون حبه والاستعداد للتضحية من أجله سنكون مثل الذين لا تربطهم به غير المصالح وسرعان ما يسبونه حين لا يشبع نهمهم المصلحي، تعلمنا أن نحب الوطن لأنه وطن وفقط وكفى.

نحن لم نكتشف الملكية بعد الفشل في الانقلاب عليها، ولم نتعلم معنى الوطن في خيانات اقترفناها قبل أن نتوب، الملكية والوطن في أصلنا ومنشئنا، ولذلك كلما هاجمونا بسبب ذلك، كنا نقول لهم ستكتشفون يوما سر ما نحن فيه، لكن بعد أن يكون قد فاتكم الأوان، وبعد أن تتحولوا إلى مهازل نفعية في نطق «عاش الملك» و«عاش الوطن».

وكما نحب ملكنا ووطننا، تربينا في «الأحداث المغربية» على أن نحب خالقنا، ونحترم ديننا، ونوقر معتقدات الناس الآخرين، اخترنا بكل بساطة أن يكون إسلامنا مغربيا، وسطيا معتدلا، لا وهابيا ولا إخوانيا. وبسبب ذلك ظل الوهابيون والإخوانيون وكل «حمقى الله» يكرهوننا ويتمنون موتنا بعد أن فشلوا في اغتيالنا الرمزي.

وبين الله والملك والوطن، لم يكن ممكنا أن نكون شيئا آخر غير أن نكون ديمقراطيين حتى النخاع، ديمقراطيون بالمعنى الحق للديمقراطية وليست بمعناه العدمي والشعبوي.

كل هذه القيم والموروثات التربوية قوت مناعتنا، ووضعت سقفا مقبولا، ناضجا وديمقراطيا لاختلافاتنا، ولذلك نحن مختلفون عن الآخرين، كأولئك الذين ينشرون هذه الأيام غسيل خياناتهم وتواطؤاتهم ضد الوطن وثوابته.

لهذا نجحنا مع السي محمد البريني وننجح مع المختار الغزيوي، نحمل اسم «الأحداث المغربية»، ونحن مدرسة للقيم، ولسنا وكرا للمتاجرة بالوطن والديمقراطية، وتقليل الحيا على الملكية والدين.

وبسبب هذا كله نجحنا في البقاء على قيد الحياة، وسننجح في أن نعود لقرائنا ورقيا كما عهدونا دائما: واضحون في التزامنا الوطني والمهني مهما كلفنا ذلك من ثمن.