ثقافة وفن

الحب في زمن كورونا !

بنعبد الله المغربي الاثنين 30 مارس 2020
IMG_4409
IMG_4409

  • AHDATH.INFO

"إن هذا الحب في كل زمان ومكان، ولكنه يشتد كثافة كلما اقترب من الموت"

(غابرييل غارسيا ماركيز)

تشتد وطأة الحب كلما اشتدت وطأة الأزمات، ويزداد وميض الرغبة في التعبير عنه كلما كان الإنسان حبيس جدران أربعة يذرعها جيئة وذهابا اليوم كله.

نلتفت جهة التلفاز، نكاد نترجاه أن يكف عن العبث بنا، وعن بث هاته الأخبار المفزعة ليل نهار.

نطل من النوافذ. يبدو لنا الفراغ لوحة من عدم، رسمها شخص ما في حالة غضب كامل، ولم يجد مايكفي من الألوان بعد البدء لكي يكمل المشهد ولكي لا يتركه ناقصا هكذا يترجى الهباء.

نلتفت إلى أعمالنا عن بعد، تلك التي قيل لنا إنها ستكون من الآن فصاعدا البديل لما كانته أعمالنا من قبل. لا مكاتب، ولا صداقات، ولا خيانات صغيرة ومرحة، ولا أصوات ضوضاء في العمل، لا زملاء نمضي معهم اليوم كله في النقار. الصمت الكبير يخيم على المكان، ووحدها هاته الأسلاك غير المرئية التي تحمل أخبار الناس إلى الناس المسماة « الويفي » تلعب مؤقتا دور صلة الوصل بين العالم لئلا يموت وحيدا في عزلته الخانقة..

الصغار حائرون داخل المنزل لا يستطيعون أن يفهموا الوضع مثلما تم شرحه لهم. تصرخ الصغيرة « ياربي نكون غير كنحلم، بغيت نخرج ». يضحك المنزل كله بعصبية واضحة للعيان. لا أحد يعرف توقيت الخروج الرسمي مجددا. الكل يتمنى في قرارة نفسه أن يكون مثل الصغيرة حالما فقط بهذا الكابوس، لكن لاأحد يمتلك جرأتها والعنفوان لكي يصرخ بها بتلك الطريقة التلقائية قبل أن يذهب مثلها، للعب بالعرائس والحديث إلى الألعاب عن مدة التيه هاته والهذيان

المطبخ. المكان الأثير اليوم. الرجال يكتشفون أشغال النساء في الأيام العادية. وأطباق الأكل المصنوعة باهتمام أكبر من ذلك الذي نوليه إياها في سائر الأوقات حديث اليوم بطوله، تتوالى مخلية المكان الواحدة بعد الأخرى للقادم من أشكال الغذاء. « ماذا أعددتم لنا اليوم؟ »، يترنح السؤال قبل أن يقع من الفم نحو مهوى الأذن، غير راغب في طرح نفسه طالما أنه هو السؤال الوحيد الذي يتكرر طيلة الساعات.

في المكان القصي من البيت تجلس السيدة العتيقة ممسكة بين يديها الكتاب المقدس، تقرأ فيه الآيات. ترفع الرأس بين فينة وأخرى إلى السماء. تطالع الصغار بنظراتها القادمة من أزمنة أخرى وتلهج بالدعاء. منذ أيام قليلة فقط كانت تطلب الغيث، كانت تنظر مليا إلى الزرقة التي تعلو الأرض وتخاطب ربها مباشرة ودون  أي ادعاء « اللهم ارحم عبادك وبهيمتك ». هاته الأيام لاشيء يزيل من فمها التوسل الآخر « اللهم ارفع غضبك ومقتك عنا ». تمسح بطرف منديلها بداية دمعة لا ترغب لها في النزول، ثم تلتفت جهة الصغار تسألهم « شنو غاديين نلعبو دابا؟ »

الرجل العتيق القادم من تقاعده نحو المنزل بعد كل سنوات الشقاء هاته جالس قرب التلفزة. يغير بطاريات آلة التحكم عن بعد في اليوم عشرات المرات. يسأل عبر الهاتف عن كل الذين يعرفهم. يسأل من بقوا أحياء عن أحوالهم اليوم، ويسأل الأبناء عن الحياة بعد رحيل الأجداد والآباء. يحكي بالساعات الطويلة عن قصصه الوهمية وعن التهيؤات. بطولات الزمن الذي مضى ومباريات الكرة التي لم يلعبها لكنه فاز بها، ثم الصبايا الصغيرات اللائي كان يعرف أنهن يذبن في هواه ويعشقنه، لكنه فضل عليهن السيدة العتيقة الجالسة في الفناء. « كانت زوينة فصغرها، عنداكم تحكمو عليها دابا » يقول لأحفاده مبتسما وراغبا في إقناعهم مرة أخرى بعد الألف أنه كان زير نساء، وأنه اختار جدتهن لأنها كانت الأجمل من بين الحريم الراغب فقط في سعادته وفي إيصاله إلى الانتشاء.

تصل عن بعد إلى المسامع أصوات سيارات إسعاف عابرة أو لعلها سيارات شرطة، أو لعلها سيارات للوقاية المدنية أو مايشبه هذا الهراء. يطل الكل من النافذة الأقرب إليه، تبتسم السيدة العتيقة الجالسة في قعر الفناء. لا ترغب في التحرك أو الفضول ولا تقوى عليهما. الأرجل التي كانت سيقانا باذخة ذات يوم، أصبحت لا تتحرك إلا بمشقة الأنفس وبعد كثير المراهم والمساعدة على تدفق الدماء. تسأل من أريكتها المطلين « شنو كاين؟ ياك لاباس؟ »

لا أحد يرغب في الرد عليها. لا أحد يمتلك الجواب. السيارات ذات الصوت المزعج مرت قادمة من حيث لا يدري أحد، وذاهبة إلى حيث لا يدري أحد، حاملة من لايعرفهم أحد

لاأحد بعد اليوم يريد أن يعرف كثير الأشياء.

الكل يريد فقط أن يعود إلى لحظة السكينة الوهمية الأولى. أن يكون لديه برنامج عمل يبد في الساعة كذا وينتهي عند الساعة كذا، وبين الساعتين هذا التخطيط لكي يصبح للفراغ معنى ولكي لاتكون له كل هاته السلطة، وهو يستسلم أمام هذا الوباء

الربة المتوجة تبدو غير قابلة للإلهاء. لديها مهام أقدس من التقديس نفسه: أن يصحو الصغار، أن يأكلوا، أن يلعبوا. ألا يسمعوا الأخبار السيئة. ألايحسوا بالملل أبدا، ألا يسوء حال تسريحة الصغيرة، وألا يتسخ سروال الصغير وألا ينظر أحد بشكل سيء إلى الأبناء

فجأة تغيرت ملامح وجهها، من المدللة التي كانت ترغب دوما في سماع الثناء إلى الوجه القاسي الملامح، العصبي النظرات، المستوعب جيدا أن الوقت وقت جد ولا قبل له بالمزاح. رباه، من أين تأتي النساء بكل هات القوة ساعة الأزمات؟

تشغل بالها اليوم بطوله بأعمال المنزل. تكاد تخترع لها أعمالا جديدة كلما أحست باقتراب القديمة من الانتهاء. لاتريد وقت فراغ -وإن صغر اليوم-  لكي لاتفكر في شيء. لكي لاتدع لذهنها أن يبدع في انتظار السيئات القادمات، ولكي لاتعطي الفرصة لذلك الحدس الخانق الذي ظل يسكنها دوما أن  شيئا ما سيأتي ذات لحظة لكي يضرب سعادتها في مقتل ولكي ينشر الفناء.

لاتريد أن تصدق ماتحياه. تلتفت جهة السيدة العتيقة، تسألها « شوية رجليك؟ تاكلي شي حاجة ؟ ». تبتسم المرأة القادمة من ماضي السنوات. تضع يدها على خد الربة المتوجة، تترجاها بالعينين ألا تخاف. تدخل مجددا بالقلب والنظرات آيات الكتاب المقدس، تشرع في القراءة وأصوات الصغار قادمة من المكان الآخر تلعب غير عابئة بمايجري. العتيق في الهاتف يحكي للخلان أو أبناء الخلان أو لمن تبقى من رائحة الأصدقاء عن بطولات الزمن الوهمي. التلفزيون يعد خسائره بالأرقام. المطبخ يعد نفسه لوجبة أخرى. الجدران الأربعة لا تتحرك، ومن النافذة يبدو مزدحما ذلك الفراغ، وتبدو الأصوات البعيدة القادمة منه غير قادرة إلا على الاستسلام

تتلو الرواية نفسها بنفسها وقد تركت وحيدة على الرف لسنوات «  سوف نرحل وحدنا إذا لم يكن أحدٌ يريد الرّحيل معنا - لا لن نذهب، بل سوف نبقى هنا، لأنّنا أنجبنا هنا واحداً من أبنائنا - ولكن لم يمت لنا أحدٌ هنا، ولاينتسب الإنسان إلى أرضٍ لا موتى له تحت ترابها "

ثم تقفل الرواية على نفسها الباب بعد التبرم منها وهي تقول على سبيل النبوءة الأخرى والأخيرة إنها لا تتحدث عن الكوليرا ولا عن المرض ولا عن الوباء. هي تتحدث عن الحب، وعن قدرته رغم السنين على العودة إلى مكانه الأول، منتصرا على الهرم، وعلى المرض وعلى الموت، قادرا على أن يبقى مثل سنوات اليفاعة الأولى السبب الوحيد الذي يدفع المغامرة كل مرة إلى الابتداء

وحده الحب سيهزم هذا المرض وهاته العزلة، وهذا الابتلاء ولاتنسوا الأهم:  «  سوف ينحدر هذا العالم إلى الدّرك الأسفل، عندما يسافر النّاس في الدّرجة الأولى، بينما يوضع الأدب في مركبة الشّحن " وفي آخر كل الاهتمام