ثقافة وفن

#ملحوظات_لغزيوي: باحجوب… وداعا !

المختار لغزيوي الجمعة 19 أبريل 2019
5188576-2040774673
5188576-2040774673

AHDATH.INFO

منذ متى أعرف المحجوب الراجي؟

هذا سؤال وقح ولا يليق إلا بالأدعياء. أفضل منه سؤال آخر أكثر شمولية يقول: منذ متى يعرف المغاربة كلهم المحجوب الراجي؟

الإجابة الوحيدة المتوفرة في السوق هي: منذ البدء.

منذ أن كانت الفرجة فرجة يعرفون الرجل. ومنذ أن كانت المتعة متعة يعرفون الرجل. ومنذ أن كان التمثيل مهنة وموهبة وإبداعا ورغبة يومية في ارتداء كل الشخصيات يعرفون الرجل.

يوم الأربعاء الماضي، كانت الحياة فاترة تسير على هواها الذي تريده متنقلة بين أحاديث الكرة التي لا تنتهي، وبين أحاديث السياسة التافهة التي تستطيع مع ذلك إبهارنا بالجديد، وبين بقية ثقوب اليومي التي تريد رتق نفسها ولا تستطيع.

أحدهم امتلك جرأة رفع الهاتف وسماعته اللعينة، وناداني في قلب الليل البهيم، وأنا أستعد للنوم لكي يقول لي بفداحة غريبة «عزانا واحد فالمحجوب الراجي... عزانا واحد فباحجوب، تصبح على خير».

أقفل المنادي هاتفه، وتركني أطرح على نفسي السؤال: «لماذا اتصل بي في هذا الوقت المتأخر لكي يخبرني بنبأ مثل هذا؟».

لم أجد جوابا إلا أنه أراد أن يتركني أتأمل سماء غرفتي الليل كله عاجزا عن النوم.

أخبار مثل هاته لا تأتي هكذا، ببساطة لكأنها عادية أو لكأنها يجب أن تقال والسلام. أخبار مثل مثل هاته يتم تهييء الناس لها سنوات من قبل لكي يجدوا عند الاصطدام المباشر بها القدرة على تحملها، والقدرة على استيعابها، والقدرة على قول «لا إله إلا لله ولا أحزنكم الله، والله أكبر وإنا لله وإنا إليه راجعون»، وبقية المسكوكات التي تقال حين الرغبة في العزاء  المستحيل..

يوم الإثنين الماضي فقط (يومان فقط قبل أن يرحل الرجل) ذكرني رجل قديم من العائلة بالمحجوب الراجي، قال لي «كان عزيز على باك». تذكرت أن الوالد هو الذي قدم لي الراجي ذات يوم عبر المذياع، بكلمات واثقة مما تقوله «بحال هاد الناس آولدي الله يعمرها سلعةمغاربة ديال بالصح». هكذا تحدث الفقيه...

كان الرجل يغني ويترنم ويتمشخر بلغة المغاربة على عديد الأشياء. عرفته عبر الصوت فقط، وشرعت في تخيله، وشرعت في الإنصات إليه كلما مر من مكان ما...

مرت بنا سنوات وسنوات. مضى الوالد لحال سبيله مثلما سنمضي جميعا، والتقيت المحجوب الراجي في عديد المرات عبر المسلسلات، أو عبر الأفلام، أو عبر السلسلات، أو عبر الاستماع دائما للمذياع. ثم التقيته ذات يوم في وجدة رفقة الراحل الآخر عمر شنبوط.

أمضينا أسبوعا كاملا لا نفترق. هو والراحل عمر شنبوط وأنا. اكتشفنا أن حكاية السن لا تعني في نهاية المطاف شيئا حين تستطيع الإنصات لمن سبقوك بكل احترام وتقديم.

في المسبح الموجود في فندق باريس بالمدينة الشرقية كنت ذات ليلة جالسا مع الراحل الكبير الآخر البسطاوي. أمضينا الليلة كلها نتحدث ونشرب نخب الحياة ضدا في مقالبها، ونهيء لحوار مطول نزل فيما بعد على صفحتين في الأحداث المغربية. دخل المحجوب الراجي الفندق. لمحنا قرب المسبح. اقترب منا بخطواته المغربية المتثاقلة تلك. سألنا «آش كتديرو آلعفاريت؟». ضحكنا ملء الحياة وقلنا له «كنوجدو واحد المؤامرة آباحجوب».

جلس في مكان ما قرب الطاولة التي كنا نقتعدها وقال لي «سأنتظر انتهاءك من الحوار مع سي محمد فلي معك كلام طويل».

انتهى الحوار مع البسطاوي قرابة الثالثة صباحا. كنت متعبا غير قادر إلا على شيء واحد: الارتماء فوق سريري والنوم. حاولت بغباء منقطع النظير أن أجد مبررا لكي أهرب تلك الليلة من المحجوب الراجي. تذكرت الوالد رحمه الله وهو يقول لي وصوت المحجوب عبر المذياع يدوي «هاد الراجل الله يعمرها سلعة». استعذت من شيطاني بالله والتحقت به حيث يجلس والبسطاوي رحمه الله يضحك ويقول لي «بقيتو هنا آسميتك».

جالست المحجوب ليلتها حتى الخامسة والنصف من صبيحة اليوم الموالي. أجرينا حوارا تحدثنا فيه عن كل شيء، وافترقنا تلك الليلة وهو يسألني «كيفاش غادي تدير تفرغ هاد العجب اللي قلناه؟».

دخلت غرفتي محاولا النوم. وجدتني أفرغ حوار المحجوب الراجي قبل حوار محمد البسطاوي وأبتسم ولا أنام.

كان قدر ذلك الحوار أن يخرج في تلك السنة المبكرة من سنوات الألفين قبل حوار البسطاوي. اتصل بي الكبير الآخر محمد وقال لي «واش كنتو درتو الحوار من قبل؟». ضحكت مجددا ملء الحياة وقلت له «لا، ولكنني وجدتني مجبرا على نشر حوار المحجوب قبل حوارك لأسباب لا تخفى عليك».

قال لي البسطاوي رحمه الله «الله يطول عمر دوك الناس هوما بركتنا وهوما راس المال».

في الحكاية المزعجة/ الغبية/ المضحكة/ المبكية المسماة الحياة أتذكر إن كنت لاأزل قادرا على التذكر أن البسطاوي رحل قبل الراجي بسنوات.

بكينا معا سي محمد، وقد كان فقدا كبيرا ومن النوع الذي لا يطاق، وتعاهدنا أن نتصل على الأقل مرة واحدة في الأسبوع لأجل الاطمئنان على البعض، ولأجل الاستمرار في الحياة، أو لأجل الاستمرار في التشبث بوهم اسمه الحياة.

لم يقع ذلك الاتصال الأسبوعي أبدا. ولم ألتق المحجوب الراجي بعدها إلا بشكل خاطف وسريع حتى مهرجان مراكش السينمائي الأخير في شهر دجنبر من سنة 2018.

كنت رفقة صديقي سعيد نافع، زميلنا المتألق وسكرتير تحرير جريدتنا، وبدا لنا «باحجوب» غير بعيد عن قصر المؤتمرات يسير بخطواته المتثاقلة الأكيدة والمتأكدة أن هناك مقلبا في نهاية خط المسير.

وقفنا قربه وقلت لسعيد «موحالش واش يعقل عليا» قبل السلام. حدق مليا في الملامح التي كبدتها السنون خسائرها وقال لي «راني متبعك آلعفريت». حدثنا عن برنامج بلال مرميد، الذي كان قد مر منه للتو على «ميدي آن تي في»، وقال بصريح العبارة «داك الولد مزيان داكشي علاش دزت عندو أما راه ما بقيت باغي نبان فوالو».

عند مصافحة الوداع الأخيرة قال لي «خلينا نشوفوك». أقسمت له أن أزوره في الرباط. قلت له «ماغاديش نعاود الفالطة آباحجوب».

يوم الأربعاء الفارط في الليل اتصل بي شخص ما. رفع سماعة الهاتف. لم يكمل حتى عبارات السلام العادية. وباغتني بالعبارة «عزانا واحد فالمحجوب الراجي، عزانا واحد فباحجوب».

وداعا باحجوب.

كنتي عزيز على الوالد الله يرحمو، وكنتي عزيز عليا بزاف.