السياسة

#ملحوظات_لغزيوي: ليست مجرد "سترات صفراء" !

أسامة خيي الخميس 29 نوفمبر 2018
manif-des-gilets-jaunes-dimanche-25-blocages-routes-rond-poi_4097497
manif-des-gilets-jaunes-dimanche-25-blocages-routes-rond-poi_4097497

AHDATH.INFO

قالت السترات الصفراء الفرنسية للرئيس "بهاته الرواتب لا نستطيع الوصول حتى نهاية الشهر سيدي"، فرد ماكرون على الغاضبين "أنا أحدثكم عن نهاية العالم وأنتم تحدثونني عن نهاية الشهر، لا مفر من الاهتمام بالبيئة أيها السادة".

يمكن بشكل كاريكاتوري اختزال الرد الماكروني على صرخة السترات الصفراء بهذه الطريقة، ويمكن أيضا النفاذ قليلا إلى عمق الإشكال، والتأمل في هذا الشكل الاحتجاجي الجديد الخارج من مواقع التواصل الاجتماعي، غير التابع نظريا - ونظريا فقط - لأي جهة أو حزب، المنطلق من غضب الناس من وضعيتها الاجتماعية التي تزداد ضيقا والذي نزل إلى الشوارع بهذا الشكل المبتكر الذي تطور السبت الماضي في جادة الشانزيليزيه إلى أعمال فوضى وتخريب لا يمكن إلا أن تكون مدانة، والذي ينذر السبت المقبل بتطورات أخرى مشابهة إذا مااستمر الشد والجذب بين الجهتين: الرئيس وهاته السترات الصفراء العجيبة

ليست أول مرة يخترع فيها الفرنسيون إسما منطلقا من زي أو رداء ما أو علامة على حركات احتجاجية، فقبل السترات الصفراء كانت هناك القبعات الحمر، وقبلهما معا كانت هناك حركة "بدون سراويل داخلية" المعروفة في تاريخ فرنسا، لكن الجديد الوحيد هاته المرة هو مواقع التواصل الاجتماعي، هذا المؤطر -الذي يحتاج هو الأول للتأطير- لكنه بالفعل يستطيع اليوم التحكم في حركات الناس أو على الأقل يستطيع أن يوجهها لفترة معينة في الاتجاه الذي يريده

لم يعد الغاضب محتاجا لنداء من مركزية نقابية عتيدة، ولا من حزب معارض كبير، ولم يعد محتج اليوم مضطرا للتحول حتى مقر التنظيم  وانتظار وصول الزعيم لكي يتلقى منه التوجيه لما ينبغي فعله أو قوله

الجميع في منزله أو في مقر عمله أو في الشارع أو في المقهى يتوصل في الآن ذاته بنفس التوجيه وبنفس الاتفاق على  الخطوة المقبلة، ويبقى التنفيذ فقط على أرض الواقع

هذا الانتقال من الافتراضي إلى الواقع جربته دول عربية قبل فرنسا فيما سمي الربيع العربي، وجربت من خلاله تونس مثلا إسقاط رئيسها ابن علي، وجربت مصر بطريقة أو بأخرى من خلاله إسقاط مبارك في فترة أولى ثم إسقاط مرسي وحكم الإخوان في المرة الثانية، لكن المبتكر الجديد هاته المرة هو أن التجربة تتم في دول المنشأ أو المصدر أو الأصل للتقنيات الحديثة وليس في دول الاستهلاك أو الاستقبال

الفارق اليوم هو أن القنوات التلفزيونية الغربية التي كانت تتحدث عن مظاهرات البلاد العربية بتعاطف كبير، وترى في عمليات الإحراق أو الشغب آنذاك انتفاضات شعبية على الغلاء والفساد والاستبداد، هي نفس القنوات التي تنوه بعمل رجال الأمن في فرنسا، والتي تطالب المتظاهرين بعدم التورط في إحراق المحلات التجارية وبعدم الاستمرار في رشق قوات الأمن بالحجارة، وترك المجال للسياحة في فرنسا لكي تزدهر  وبقية النصائح التي نسمعها بشكل يومي هاته الأيام.

هي نفس القنوات، لكن الموجهة هاته المرة إلى جمهور آخر وإلى شريحة مستهدفة ثانية لذلك يتغير الخطاب. تغيب النبرات الحماسية في التشجيع، تتوارى إلى الخلف عبارات "نحن نساندكم فلاتتوقفوا"، وعوضها يحل كلام العقل وحديث المنطق وعبارات التوصية أن رجاء حافظوا على الأمن العام، أمننا

وهذه النون الجماعية التي نلمحها اليوم في القنوات التلفزيونية الفرنسية وفي الجرائد وفي الإذاعات وفي المواقع هناك هي الفرق بيننا وبينهم، هي التي تحدد لنا شكل اللعب بالإعلام وفق المراد منه في لحظة ما، وشكل تحويل نفس الإعلام إلى خطاب نقيض حين تراد منه أشياء مخالفة تماما .

طبعا بعض صغار العقول لدينا يتورطون من حيث يدرون، وفي الغالب من حيث لا يدرون، في الإيمان بأن كل مايأتي من الغرب هو مقدس وصادق وطاهر ولوجه الحرية والمبادئ الإنسانية الكبرى، لذلك يضعون كل بيضهم في سلة هذا الغرب حين المظاهرات أو الاحتجاجات التي تعرفها بلداننا، بل فينا ومن بيننا من يتورط في التخابر مع دول أجنبية، ومن يصبح ناطقا باسمها يطلب اللجوء إليها فور أول مشكل، ويستقوي بها علينا ويعتبر أنها السبيل الوحيد للانتصار علينا

وعندما يقع شغب ما أو إحراق ما أو اعتداء ما على قوات الأمن ويقال لهذا البعض بأن الأمر غير مقبول وبأن المسافة الفاصلة بين الاحتجاج  وبين الشغب هي مسافة قصيرة لا يجب قطعها، يتم وصف قائل هذا الكلام بكل الصفات السيئة، ويتم استيراد النماذج من هناك لأجل الرد عليه

مايقع في فرنسا هذه الأيام يصلح درسا حقيقيا للتأمل والمقارنة بين الحركات الاحتجاجية لدينا ولديهم وللعثور على الفوارق السبعة، وأيضا للتأمل في التطور الافتراضي للاحتجاج، والاستفادة من واقع الحال في عالم التواصل السياسي اليوم: الكل يتحدث لكن القليل ينصت، أو لكي نقولها بشكل آخر: الجميع يريد أن يتحدث وأن يوصل مايريده، لكن لا أحد لديه القدرة على إصاخة السمع للانتباه لما يقوله هذا الكل

وسط هذا الضجيج العارم ووسط هذا الوهم الذي يعطى لنا أننا نمارس التواصل مع بضعنا البعض يضيع شيء واحد فقط: التواصل.

وهذه هي مفارقة هذا العالم الصغير الذي أصبح قرية بفضل تكنولوجيا الاتصال هاته ولم يستطع بعد التعرف على الطريقة المثلى لكي يصبح قرية تتواصل مع بعضها البعض، عوض أن يكون مجرد قرية يتحدث فيها الجميع ولا أحد ينصت في نهاية المطاف.