مجتمع

محمد فال القاضي أكاه: مذكرات عائد موريتاني من جحيم معتقلات البوليساريو (ح:58)

محمد سالم الشافعي/ عبد الكبير اخشيشن الاثنين 04 سبتمبر 2017
الصورة التي كنت أشتاق لمحوها من ذاكرتي
الصورة التي كنت أشتاق لمحوها من ذاكرتي

يوم أحسست بدوار ودوخة.. رحلة العودة

أكملت السنة الدراسية (1989-1990) في معهد المعلمات، التابع لمدرسة 27 فبراير، وكانت سنة ذهبية بالنسبة لي، فقد كان عدد الحصص التي أقدمها لا يتجاوز عشر حصص أسبوعيا، وكل من أعمل معهم جعلوني أحس براحة نفسية كنت أحتاج إليها لأستعيد توازني بعد سنوات من البؤس والشقاء كدت أن أفقد خلالها عقلي، وبعد الاختتام استفدت من عطلة لمدة عشرة أيام على أن ألتحق بعدها بمدرسة 12 أكتوبر، حيث سأقدم دروسا لمجموعة من المعلمين والمعلمات ستنظم فترة تربص من أربعين يوما لصالحهم.

وكان لي صديق في مخيم العيون فقررت أن أذهب إليه وأقضي معه تلك الأيام لعلي أجد فرصة للقاء محمد الأمين أحمد، الذي كنت أعلم أن إحدى زوجتيه تسكن في المخيم نفسه وقد كانت تلميذة لي، وذلك من أجل أن أجدد له طلبي بالترخيص للذهاب إلى موريتانيا، وبالفعل فقد حظيت بلقاء معه وكان كعادته معي لطيفا خلال اللقاء فرحب بي بحرارة أنا وصديقي (فضيلي عمي ديدي) الذي كان معي.

وخلال مجلسنا معه قال لنا ممازحا إنه يعرف سبب زيارتي أنا، ولكنه يريد أن يعرف لماذا يزوره زميلي الذي قال إنه لم يزره من قبل بالرغم من أنهما متجاوران منذ فترة في نفس المخيم. بعد تلك الجلسة ودعناه دون أن أعرف أن إشارته إلى معرفته لسبب تلك الزيارة يعني بالنسبة له أن دوري في الترخيص لم يبق عليه أقل من شهر، ولعل جهلي لهذا الأمر كان لطفا من رب العالمين، إذ أعتقد أني لو تلقيت منه تعهدا قاطعا بالترخيص لي ولو بعد سنة ما كنت لأنام طيلة تلك الفترة من شدة الفرح، وما كنت لأستطيع إخفاء تلك الفرحة الأمر الذي قد يعرضني لنظرات الشك بأنني لن أعود إذا ما تم الترخيص لي. بعد انقضاء تلك الأيام العشرة، التحقت كما كان مبرمجا بالمتربصين وبدأت معهم دروس تقوية في اللغة العربية والرياضيات وطرق التدريس كما هو مقرر، وفي اليوم الأخير لفترة التربص وكان يوم 31-07-1990 كنت قد أجريت اختبارا نهائيا للمتربصين في الصباح وعدت إلى المسكن لأصححه، وخلال عملية التصحيح كنت أتحدث مع مجموعة من العاملين معي عن موضوع الترخيص للذهاب إلى موريتانيا الذي كان بعضهم قد تقدم مثلي بطلب له، وأذكر أن أحدهم قال بلغة الواثق بأني لن يرخص لي وهو شخص من الذين ينعتون بأنهم مجندون في صفوف البوليس السياسي التابع لقيادة البوليساري.

ويقال إن سبب التحاقه بالمخيمات هو كونه قتل شرطيا في المغرب عن طريق الخطأ مما دفعه للفرار إلى هناك، ورغم أنه لا يمتلك صفة رسمية معلنة، فقد أصابني كلامه بالإحباط لكوني إلى حد تلك اللحظة لم أر مؤشرا ملموسا يدل على أن حلمي سيتحقق لألتحق بأهلي الذين انقطعت أخباري عنهم منذ عشر سنوات ووطني الذي مضى علي أكثر من ثماني سنوات لم أسمع عنه من شيء سوى النعوت البذيئة التي كنت أسمع «أوصياء الثورة والنضال» يرددونها عنه كل يوم، والتي كان وقعها في نفسي يشبه وقع ذلك النبأ الذي سمعته من مراسل البي بي سي في العاصمة السنغالية عن كيف كان السنغاليون يضربون الموريتانيين في الشوارع حتى الموت.

وبينما كنا غارقين في نقاش عقيم عمن تتوفر فيه شروط الترخيص قبل غيره، طل علينا من النافذة شاب يدعى الناجم عينا ونادى علي ليخبرني الخبر الذي كنت أنتظره بلهفة دون أن يكون عندي تصور لموعده، والذي لا أعتقد أنني سأسمع في الحياة الدنيا ما يفرحني أكثر منه. فقد قال لي إنه أودع رسالة لدى إدارة المدرسة مرسلة من محمد الأمين أحمد، مسؤول أمانة المكتب السياسي يطلب فيها التحاقي في مساء ذلك اليوم بمقر المجلس الوطني قرب مركز الرابوني من أجل السفر إلى موريتانيا ضمن قافلة ستنطلق في اليوم الموالي. ورغم أني أحسست بدوار حقيقي من صدمة الفرحة، فقد حاولت أن أبقى متماسكا وكأن الأمر جد عادي بالنسبة لي حتى لا أبدو كمن أفلته أسد، بعد أن كاد يفترسه فأخذ يجري دون أن يدري أن الجري يحفز غريزة  المطاردة عند الأسود، فكان علي أن أتصرف بهدوء كما لو كنت ذاهبا لأي مكان في تلك الأرض التي كانت في تلك الأيام تمثل سجنا كبيرا.